سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية رقم (1 : 3)
{ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا . وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }
قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة اللّه، على نور من اللّه، ترجو ثواب اللّه، وأن تترك معصية اللّه، على نور من اللّه، مخافة عذاب اللّه، وقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} دعا أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطراً من أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة، فأنزل اللّه {يا أيها النبي ...} الآية. أخرجه جويبر، وذكره في اللباب أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إن اللّه كان عليماً حكيماً} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى: {واتبع ما يوحي إليك من ربك} أي من قرآن وسنّة، {إن اللّه كان بما تعملون خبيراً} أي فلا تخفى عليه خافية، {وتوكل على اللّه} أي في جميع أمورك وأحوالك، {وكفى باللّه وكيلا} أي وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه.
الآية رقم (4 : 5)
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما }
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي، أمراً معروفاً حسياً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منه بقوله أنت عليَّ كظهر أمي أماً له، كذلك لا يصير الدعيُّ ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابناً له، فقال: {ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه وما يجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم}، كقوله عزَّ وجلَّ: {ما هنّ أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} الآية، وقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءهم} هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي اللّه عنه مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم، كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد فأراد اللّه تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}، كما قال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين}، وقال ههنا: {ذلكم قولكم بأفواهكم} يعني تبنّيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لايمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان، {واللّه يقول الحق} أي العدل، {هو يهدي السبيل} أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين هو جميل بن معمر الجمحي ، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية رداً عليه. وقال عبد الرزاق عن الزهري في قوله: {ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه}، قال: بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل، يقول ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير واللّه سبحانه تعالى أعلم، وقوله عزَّ وجلَّ: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر.
روى البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي اللّه عنه مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه} "أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي". وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، وقال عزَّ وجلَّ: {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً}، وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} احترازاً عن زوجة الدعي فأنه ليس من الصلب، فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهنهي عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قدمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أغيلمة بني عبد المطلب - على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: (أبنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) "أخرجه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي"وعن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: )يا بني(، وقوله عزَّ وجلَّ: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانكم في الدين ومواليهم أي عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلي رضي اللّه عنه: (أنت مني وأنا منك) وقال لجعفر رضي اللّه عنه: (أشبهتَ خَلْقَي وخُلُقي)، وقال لزيد رضي اللّه عنه: (أنت أخونا ومولانا). كما قال تعالى: {فإخوانكم في الدين ومواليكم}.
وقد جاء في الحديث: (ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) "أخرجه البخاري ومسلم"؛ وهذا تشديد وتهديد، ووعيد أكيد، في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم}، ثم قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن اللّه تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه كما أرشد
إليه في قوله تبارك وتعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وفي الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر) "أخرجه البخاري عن عمرو بن العاص مرفوعاً"، وفي الحديث الآخر: (إن اللّه تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه)، وقال تبارك وتعالى ههنا: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبهم وكان اللّه عفوراً رحيماً} أي إنما الإثم على من تعمد الباطل، كما قال عزَّ وجلَّ: {لا يؤاخذكم اللّه باللغو في إيمانكم} الآية، وروى الإمام أحمد عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: إن اللّه تعالى بعث محمداً صلى اللّه عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول اللّه صلى عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: قد كنا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم] "أخرجه الإمام أحمد في المسند"، وفي الحديث الآخر: (ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم).
الآية رقم (6)
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا }
علم اللّه تعالى شفقة رسوله صلى اللّه عليه وسلم على أمته ونصحته لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدمٌ على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}، وفي الصحيح: (والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين). وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه، واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: يا رسول اللّه واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (الآن يا عمر)؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرأوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أَّنفسهم}. فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه) "أخرجه البخاري ورواه أحمد وابن أبي حاتم". وقال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع.
وقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه} أي في حكم اللّه {من المؤمنين والمهاجرين} أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن الزبير بن العوام رضي اللّه عنه قال: أنزل اللّه عزَّ وجلَّ فينا خاصة معشر قريش والأنصار: {وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض}، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي اللّه عنه خارجة بن زيد ، وآخى عمر رضي اللّه عنه فلاناً، وآخى عثمان رضي اللّه عنه رجلاً من بني زريق ابن سعد الزرقي ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي اللّه عنه، وواخيت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، فواللّه يا بني لو مات يؤمئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل اللّه تعالى هذه الآية فينا معشر قريش، والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى: {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية، وقوله تعالى: {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} أي هذا الحكم، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من اللّه مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي واللّه أعلم.
الآية رقم (7 : 8)
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا . ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما }
يقول تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء، أنه أخذ عليهم العهد والميثاق، في إقامة دين اللّه تعالى وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، كما قال تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، وكذلك هذا، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم، وقد صرح بذكرهم أيضاً في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك. وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها، كما قال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} فبدأ في هذه الاية بالخاتم لشرفه صلوات اللّه عليه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات اللّه عليهم، وقد قيل: إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبي بن كعب: ورفع أباهم آدم فنظر إليهم يعني ذريته، وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك فقال: رب لو سويت بين عبادك فقال: إني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة وهو الذي يقول اللّه تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} وقال ابن عباس: الميثاق الغليظ العهد، وقوله تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} قال مجاهد: المبلغين المؤدين عن الرسل، وقوله تعالى: {وأعد للكافرين} أي من أممهم {عذاباً أليماً} أي موجعاً، فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين، والمارقين والقاسطين.
الآية رقم (9 : 10)
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا . إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون }
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإحسانه، إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم، عام تألبوا عليهم وتحزبوا، وذلك عام الخندق، وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرأ من أشراف يهود بني النضير، الذين كانوا قد أجلاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، منهم سلام بن أبي الحقيق و سلام بن مشكم و كنانة بن الربيع خرجوا إلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي صلى اللّه عليه وسلم، ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي اللّه عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التراب وحفر، وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال اللّه تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف، فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى اللّه عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل، فذهب إليهم حيي بن أخطب فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالأوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فعظم الخطب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال اللّه تبارك وتعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} ومكثوا محاصرين للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر، الإ أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، ثم أرسل اللّه عزَّ وجلَّ على الأحزاب ريح شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء، ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: {يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً} قال مجاهد: وهي الصَّبا، ويؤيده الحديث الشريف: (نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور).
وقوله تعالى: {وجنوداً لم تروها} هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقولك يا بني فلان إليّ فيجتمعون إليه فيقول: النجاء لما ألقى اللّه عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرعب، روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه فقال له رجل: لو أدركت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة) فلم يجبه منّا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال صلى اللّه عليه وسلم: (يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم) فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال: (ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، قال فمضيت كأنما أمشي في حمّام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته، قال: فرجعت كأنما أمشي في حمّام فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت، فأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول اللّه عليه وسلم: (قم يا نومان) "أخرجه مسلم في صحيحه".
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة رضي اللّه عنه مشاهدهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال جلساؤه: أما واللّه لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة: لاتمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً رجلاً، حتى أتى علي وما عليَّ من جنة العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني صلى اللّه عليه وسلم، وأنا جاث على ركبتي فقال: (من هذا؟) فقلت: حذيفة، قال: (حذيفة؟) فتقاصرت الأرض فقلت: بلى يا رسول اللّه كراهية أن أقوم فقمت، فقال: (إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم) قال: وأنا من أشد الناس فزعاً
وأشدهم قراً قال: فخرجت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته)، قال: فواللّه ما خلق اللّه تعالى فزعاً ولا قراً في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً، قال: فلما وليت قال صلى اللّه عليه وسلم: (يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني) قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني)، قال: فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فواللّه إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن اللّه تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول اللّه صلى للّه عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي فواللّه ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل اللّه تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان اللّه بما تعملون بصيراً}
"أخرجه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة"ولأبي داود: وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى "أخرجه أبو داود في سننه"؛ وقوله تعالى: {إذا جاءوكم من فوقكم} أي الأحزاب {ومن أسفل منكم} تقدم عن حذيفة رضي اللّه عنه أنهم بنو قريظة، {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} أي من شدة الخوف والفزع، {وتظنون باللّه الظنونا} ظن بعض من كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وقال محمد بن إسحاق: ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلا الغائط، وقال الحسن في قوله عّز وجّل: {وتظنون باللّه الظنونا} ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد اللّه ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللّه هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله".
الآية رقم (11 : 13)
{ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
يقول تعالى مخبرا عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون
في غاية الجهد والضيق، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أظهرهم، أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً، فحينئذ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم، {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غروراً}، أما المنافق فنجم نفاقه، والذي قلبه شبهة تنفس بما يجده من الوسواس في نفسه، لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال، قال اللّه تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب} يعني المدينة كما جاء في الصحيح: (أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين فذهب وَهْلي وَهْلي: أي ظني أنها هجر فإذا هي يثرب) وفي لفظ المدينة، وقوله: {لا مقام لكم} أي ههنا يعنون عند النبي صلى اللّه عليه وسلم في مقام المرابطة، {فارجعوا} أي إلى بيوتكم ومنازلكم {ويستأذن فريق منهم النبي} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا نخاف عليها السراق، يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال اللّه تعالى: {وما هي بعورة} أي ليست كما يزعمون {إن يريدون إلا فراراً} أي هرباً من الزحف.
الآية رقم (14 : 17)
{ ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا . قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا . قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين {يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً} أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير ، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا اللّه من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفروا من الزحف: {وكان عهد اللّه مسئولاً} أي وإن اللّه سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى: {وإذا لا تمتعون إلا قليلاً} أي بعد هربكم وفراركم، ثم قال تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه} أي يمنعكم، {إن أراد بكم سواءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من
دون اللّه ولياً ولا نصيراً} أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون اللّه مجير ولا مغيث.
الآية رقم (18 : 19)
{ قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا }
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم من شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم {هلم إلينا} أي إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار وهم مع ذلك {لا يأتون البأس إلا قليلاً * أشحة عليكم} أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم، وقال السدي {أشحة عليكم} أي في الغنائم، {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} أي من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابن عباس: {سلقوكم} أي استقبلوكم، وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وهم مع ذلك {أشحة على الخير} أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير. فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعيار الأعيار: جمع عير وهو الحمار جفاء وغلظة * وفي الحرب أمثال النساء العوارك؟
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض، ولهذا قال تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط اللّه أعمالهم وكان ذلك على اللّه يسيرا} أي سهلاً هيناً عنده.
الآية رقم (20)
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف، {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} بل هم قريب منهم وإن لهم عودة إليهم، {وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أبنائكم} أي ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة، بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمرهم مع عدوكم، {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً} أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلاً، لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم واللّه سبحانه وتعالى العالم بهم.
الآية رقم (21 : 22)
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى اللّه عليه وسلم في صبره ومصابراته ومرابطته ومجاهدته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: {لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر وذكر اللّه كثيراً} ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين، المصدقين بموعود اللّه لهم، وجعله العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله} قال ابن عباس: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة {مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللّه؟ ألا إن نصر اللّه قريب} أي هذا ما وعدنا اللّه ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى: {وصدق اللّه ورسوله}، وقوله تعالى: {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، ومعنى قوله جلت عظمته: {وما زادهم} أي ذلك الحال والضيق والشدة {إلا إيماناً} باللّه {وتسليماً} أي انقياداً لأوامره وطاعة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم.
الآية رقم (23 : 24)
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }
لما ذكر عزَّ وجلَّ عن المنافقين أنهم نقضوا العهد، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق، و{صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه} قال بعضهم: أجله، وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إلى الأول {ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} أي وما غيروا عهد الله ولا نقضوه ولا بدلوه. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي اللّه عنه {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه} الآية، وروى الإمام أحمد عن ثابت قال: قال أنس عمي أنس بن النضر رضي اللّه عنه، لم يشهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني اللّه تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليرين اللّه عزَّ وجلَّ ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُُحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فقال له أنس رضي اللّه عنه: يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل رضي اللّه عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية {من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي اللّه عنهم "أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي اللّه عنه بنحوه". وعن طلحة رضي اللّه عنه قال: لما رجع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم من أُحد صعد المنبر، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه، وعزّى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه} الآية كلها، فقام إليه رجل من المسلمين فقال: يا رسول اللّه من هؤلاء؟ فأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال: (أيها السائل هذا منهم) "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن موسى بن طلحة".
قال مجاهد في قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبه} يعني عهده {ومنهم من ينتظر} يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وقال الحسن: {فمنهم من قضى نحبه} يعني موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدل تبديلاً، وقال بعضهم: نحبه نذره، وقوله تعالى: {وما بدلوا تبديلا} أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا اللّه عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين {عاهدوا اللّه من قبل لا يولون الأدبار}، وقوله تعالى: {ليجزي اللّه الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال، ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعمله منهم، كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}، فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال اللّه تعالى: {ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}، ولهذا قال تعالى ههنا: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم} أي بصبرهم على ما عاهدوا اللّه عليه، وقيامهم به ومحافظتهم عليه {ويعذب المنافقين} وهم الناقضون لعهد اللّه المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: {إن اللّه كان غفوراً رحيماً}.
الآية رقم (25)
{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم
التي أرسلها على عاد، ولكن قال تعالى: {وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم} فسلط عليهم هواء فرّق شملهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم {لم ينالوا خيراً} لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الاخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله، وقوله تبارك وتعالى: {وكفى اللّه المؤمنين القتال} أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم؛ بل كفىّ اللّه وحده ونصر عبده وأعز جنده، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا إله إلا اللّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده) "أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة"، وفي الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي اللّه عنه قال: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم). وفي قوله عزَّ وجلَّ: {وكفى اللّه المؤمنين القتال}، إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم، قال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بلغنا: (لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم)، فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح اللّه تعالى مكة، وقوله تعالى: {وكان اللّه قوياً عزيزأً} أي بحوله وقوته ردّهم خائبين لم ينالوا خيرأً، وأعز اللّه الإسلام وأهله، فلخ الحمد والمنة.
الآية رقم (26 : 27)
{ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا }
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت الأحزاب، ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العهد، وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب لعنة اللّه دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له كعب: بل واللّه أتيتني بذل الدهر، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب، حتى أجابه، فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً، فلما أيده اللّه تعالى ونصره، وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة، في بيت أم سلمة رضي اللّه عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام متعجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال صلى اللّه عليه وسلم: (نعم)، قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، فنهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالميسر إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى اللّه
عليه وسلم: (لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة)
، فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد منا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحداً من الفريقين، وتبعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي اللّه عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، ثم نازلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه سلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي اللّه عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فعند ذلك استدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي اللّه عنه: لقد آن لسعد أن تأخذه في اللّه لومة لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت) فقال رضي اللّه عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نعم) قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: (نعم)، قال: وعلى من ههنا، وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نعم)، فقال رضي اللّه عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لقد حكمت بحكم اللّه تعالى من فوق سبعة أرقعة)، ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأخاديد، فخدت في الأرض وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم، ولهذا قال تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي عاونوا ألأحزاب وساعدوهم على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {من أهل الكتاب} يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} فعليهم لعنة اللّه، وقوله تعالى: {من صياصيهم} يعني حصونهم وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغير واحد من السلف ، {وقذف في قلوبهم الرعب} وهو الخوف لأنهم كانوا مالأوا المشركين على حرب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال، ولهذا قال تعالى: {فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً} فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الصغار والنساء، {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} أي جعلها لكم من قتلكم لهم {وأرضاً لم تطأوها} قيل: خيبر، وقيل: مكة، وقيل: فارس والروم، قال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مراداً {وكان اللّه على كل شيء قديراً}.
الآية رقم (28 : 29)
{ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما }
هذا أمر من اللّه تبارك وتعالى لرسول اللّه صلى الّه عليه وسلم، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند اللّه تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي اللّه عنهن وأرضاهن، اللّه ورسوله والدار الآخرة، فجمع اللّه تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة، روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءها حين أمره اللّه تعالى أن يخيَّر أزواجه، قالت: فبدأ بي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك - قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه - قالت: ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالى قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك}) الآيتين، قالت عائشة رضي اللّه عنها فقلت أفي هذا استأمر أبويّ؟ فإني أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة "أخرجه البخاري وفي بعض رواياته عن عائشة قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل ما فعلت". وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قالت عائشة رضي اللّه عنها: أنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك) قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال: (إن اللّه تبارك وتعالى قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآيتين، قالت عائشة رضي اللّه عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة رضي اللّه عنهن "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه البخاري ومسلم عن الزهري عن عائشة بمثله".
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي اللّه عنه قال: أقبل أبو بكر رضي اللّه عنه يستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والناس ببابه جلوس، والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي اللّه عنه، فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما فدخلا والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو صلى اللّه عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي اللّه عنه: لأكلمن النبي صلى اللّه عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: (هن حولي يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر رضي اللّه عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي اللّه عنه إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى اللّه عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلن: واللّه لا نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ الخيار، فبدأ بعائشة رضي اللّه عنها فقال: (إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك) قالت وما هو؟ قال فتلا عليها: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية. قالت عائشة رضي اللّه عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار اللّه تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه تعالى لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً ميسراً، لاتسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها) "أخرجه مسلم والإمام أحمد"، قوله تعالى: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن، قال عكرمة: وكان تحته يؤمئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة رضي اللّه عنهن، وكانت تحته صلى اللّه عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي اللّه عنهن وأرضاهن أجمعين.
الآية رقم (30 : 31)
{ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً }
يقول تعالى واعظاً نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم، اللاتي اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، بأن من يأت منهن {بفاحشة مبينة} قال ابن عباس: هي النشوز وسوء الخلق، وهذا شرط والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، وكقوله {قل إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين}
، فلما كانت منزلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً، ولهذا قال تعالى: {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} يعني في الدنيا والآخرة قاله زيد بن أسلم ومجاهد ، {وكان ذلك على اللّه يسيراً} أي سهلاً هنياً، ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {ومن يقنت منكن للّه ورسوله} أي تطع اللّه ورسوله وتستجب {نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً} أي في الجنة، فإنهن في منازل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
الآية رقم (32 :34)
{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا . واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا }
هذه آداب أمر اللّه تعالى بها نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، بأنهن إذا اتقين اللّه عزَّ وجلَّ كما أمرهن، فإنه لا يشبهن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى: {فلاتخضعن بالقول} قال السدي: يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} أي دغل، {وقلن قولاً معروفاً} قال ابن زيد: قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها، وقوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} أي إلزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية، الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه وليخرجن وهن تفلات) تفلات: أي غير متطيبات وفي رواية: (وبيوتهن خير لهن) وروى الحافظ البزار عن أنس رضي اللّه عنه قال: جئن النساء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلن: يا رسول اللّه ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل اللّه تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل اللّه تعالى؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من قعدت - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل اللّه تعالى)، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها) "أخرجه الحافظ البزار والترمذي"، وفي الحديث: (صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها) "أخرجه الحافظ البزار عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعاً وإسناده جيد"، وقوله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى اللّه تعالى عن ذلك، وقال مقاتل: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
وقوله تعالى: {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن اللّه ورسوله} نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة اللّه وحده، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين، {وأطعن اللّه ورسوله}، وهذا من باب عطف العام على الخاص، وقوله تعالى: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} نص في دخول أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه اللآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، روى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن، فقد روى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب رضي اللّه عنه عن ابن عم له قال: دخلت مع أبي على عائشة رضي اللّه عنها فسألتها عن علي رضي اللّه عنه، فقالت رضي اللّه عنها: تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه؟ لقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً رضي اللّه عنهم فألقى عليهم ثوباً فقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) قالت: فدنوت منهم فقلت: يا رسول اللّه وأنا من أهل بيتك؟فقال صلى اللّه عليه وسلم: (تنحي فإنك على خير) "أخرجه ابن أبي حاتم".
وروى مسلم في صحيحه عن يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن سلمة إلى زيد بن أرقم
رضي اللّه عنه، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: يا ابن أخي واللّه لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا، فلا تكلفوا فيه، ثم قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: (أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب اللّه تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به) فحث على كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ورغب فيه، ثم قال: (وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي) فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي اللّه عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم
"رواه مسلم في صحيحه". والذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة} أي واعملن بما ينزل اللّه تبارك وتعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنّة، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي عنهما أولاهن بهذه النعمة، فإنه لم ينزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات اللّه وسلامه عليه، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته
فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث: (وأهل بيتي أحق)، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال: (هو مسجدي هذا)، فهذا من هذا القبيل، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء، كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إذا كان ذاك أُسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى بتسميته بذلك واللّه أعلم. وقوله تعالى: {إن اللّه كان لطيفاً خبيراً} أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته أعطاكن ذلك وخصكن بذلك، قال ابن جرير: واذكروا نعمة اللّه عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن اللّه تعالى على ذلك واحمدنه {إن اللّه كان لطيفاً خبيراً} أي إذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات اللّه والحكمة وهي السنّة خبيراً بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً.
الآية رقم (35)
{ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما }
عن أم سلمة رضي اللّه عنها أنها قالت للنبي صلى اللّه عليه وسلم يا نبي اللّه: ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يذكرن؟ فأنزل اللّه تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} "رواه النسائي في سننه عن أم سلمة رضي اللّه عنها". وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قال النساء للنبي صلى اللّه عليه وسلم: ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فأنزل اللّه تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الآية "أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما". وقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} دليل على أن الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وفي الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه. وقوله تعالى: {والقانتين والقانتات} القنوت هو الطاعة في سكون، قال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً}، وقال تعالى: {كل له قانتون} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو {الإيمان} ثم القنوت ناشيء عنهما {والصادقين والصادقات} هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة، وهو علامة على الإيمان كما أن الكذب أمارة على النفاق؛ ومن صدق نجا، (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر) الحديث. {والصابرين والصابرات} هذه سجية الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم ان المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصبعه في أول وهلة ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها {والخاشعين والخاشعين} الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من اللّه تعالى ومراقبته كما في الحديث: (اعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) {والمتصدقين والمتصدقات} الصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، وقد ثبت في الصحيحين: (سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله - فذكر منهم - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). وفي الحديث الآخر: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً.
{والصائمين والصائمات} والصوم زكاة البدن، يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة، كما قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة، كما قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ناسب أن يذكر بعده {والحافظين فروجهم والحافظات} أي عن المحارم والمآثم إلا عن المباح، كما قال عزَّ وجلَّ: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}، وقوله تعالى: {والذاكرين اللّه كثيراً والذكرات}، روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذ أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات) "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمثله". وفي الحديث: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال صلى اللّه عليه وسلم: (ذكر اللّه عزّ وجلّ) "أ خرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل مرفوعاً"وروي أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أي المجاهدين
أعظم أجراً يا رسول اللّه؟ قال رسول اللّه عليه وسلم: (أكثرهم للّه تعالى ذكراً)، قال: فأي الصائمين أكثر أجراً؟ قال صلى اللّه عليه وسلم: (أكثرهم للّه عزَّ وجلّ ذكراً) ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول اللّه صلى الّه عليه وسلم: (أكثرهم للّه ذكراً) فقال أبو بكر لعمر رضي اللّه عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أجل)
"أخرجه الإمام أحمد في المسند". وقوله تعالى: {أعد اللّه لهم مغفرة وأجراً عظيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم، أي أن اللّه تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم {مغفرة} منه لذنوبهم و {أجراً عظيماً} وهو الجنة.
الآية رقم (36)
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي اللّه عنه، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسباً، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل اللّه تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الآية كلها وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل أنها نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة ، وقال عبد الرحمن بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي اللّه عنها، وكانت أول من هاجر من النساء يعني بعد صلح الحديبية فوهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة رضي اللّه عنه يعني - واللّه أعلم - بعد فراقه زينب، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزوجنا عبده، قال، فنزل القرآن: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً} إلى آخر الآية، وروى الإمام أحمد عن أنَس رضي اللّه عنه قال: خطب النبي صلى اللّه عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال: حتى أستأمر أمها، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (نعم إذاً) قال، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر لها، فقالت: لاها اللّه إذن ما وجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا جليبيباً، وقد منعناها من فلان وفلان، قال: والجارية في سترها تسمع، قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول اللّه صلى الّه عليه وسلم أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، قال: فكأنها جلت عن أبويها، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال صلى اللّه عليه وسلم: (فإني قد رضيته)، قال: فزوجها، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب فوجوده قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس رضي اللّه عنه: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة "أخرجه امام أحمد عن أنس رضي اللّه عنه". وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره؟ نزلت هذه الآية: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وقال ابن جريج عن طاووس قال: إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر، فنهاه وقرأ ابن عباس رضي اللّه عنه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فهذه الاية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم اللّه ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}، وفي الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: {ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}، كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
الآية رقم (37)
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا }
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، وهو الذي أنعم اللّه عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم {وأنعمت عليه} أي بالعتق من الرق، وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر، حبيباً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال له الحب ويقال لابنه أسامة الحب ابن الحب قالت عائشة رضي اللّه عنها: ما بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه "أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها"، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد زوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي اللّه عنها، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً، فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما فجاء زيد يشكوها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول له: :أمسك عليك زوجك واتق اللّه) قال اللّه تعالى: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه}. روى ابن أبي حاتم عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي اللّه عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه}، فذكرت له، فقال: لا، ولكن اللّه تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي اللّه عنه ليشكوها إليه قال: (اتق اللّه وأمسك عليك زوجك) فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه.
وروى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب اللّه تعالى لكتم {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه}، وقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} الوطر: هو الحاجة والأرب، أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه الله عزَّ وجلَّ، بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، عن أنس رضي اللّه عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الّه صلى اللّه عليه وسلم لزيد بن حارثة: (اذهب فاذكرها عليَّ) فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤمر ربي عزَّ وجلَّ، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واتبعته، فجعل صلى اللّه عليه
وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول اللّه فكيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية كلها "أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي بنحوه"، وقد روى البخاري رحمه اللّه عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: (إن زينب بنت جحش رضي اللّه عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم، فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني اللّه تعالى من فوق سبع سماوات)
"أخرجه البخاري في صحيحه عن أنَس بن مالك"وقوله تعالى: {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً} أي إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنّى زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، فكان يقال له زيد بن محمد فلما قطع اللّه تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أنباءكم} زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي اللّه عنها لما طلقها زيد بن حارثة، ولهذا قال تعالى في آية التحريم {وحلائل أبناءكم الذين من أصلابكم} ليحترز من الابن الدعي، فإن ذلك كان كثيراً فيهم، وقوله تعالى: {وكان أمر اللّه مفعولاً} أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره اللّه تعالى وحتمه، وهو كائن لا محالة، كانت زينب رضي اللّه عنها في علم اللّه ستصير من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم.
الآية رقم (38)
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا }
يقول تعالى: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض اللّه له} أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي اللّه عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، وقوله تعالى: {سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل} أي هذا حكم اللّه تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه، {وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً} أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الآية رقم (39 : 40)
{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما }
يمدح تبارك وتعالى {الذين يبلغون رسالات اللّه} أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها {ويخشونه} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات اللّه تعالى {وكفى باللّه حسيباً} أي وكفى اللّه ناصراً ومعيناً، وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي اللّه عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر اللّه فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول اللّه: ما يمنعك أن تقول منه، فيقول رب خشيت الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى) "أخرجه أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري". وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي اللّه عنها فماتوا صغاراً، وولد له صلى اللّه عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له صلى اللّه عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي اللّه عنهم أجمعين، فمات في حياته صلى اللّه عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي اللّه عنها حتى أصيبت به صلى اللّه عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر، وقوله تعالى: {ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليماً} فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة.
وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) "أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح". حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي) قال فشق ذلك على الناس فقال: (ولكن المبشرات) قالوا: يا رسول اللّه وما المبشرات؟ قال: (رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) "أخرجه أحمد والترمذي"، حديث آخر: روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها الإ موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) "أخرجه الطيالسي ورواه البخاري ومسلم والترمذي بنحوه". حديث آخر: قال الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكنت أنا اللبنة، حديث آخر، قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي اللّه عنه قال، قال لي النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إني عند اللّه لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته). حديث آخر: عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إن لي أسماء: أنا أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي
يمحو اللّه تعالى به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي)
"أخرجاه في الصحيحين عن طريق الزهري". فمن رحمة اللّه تعالى بالعباد إرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال، ضال مضل.
الآية رقم (41 : 44)
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا . وسبحوه بكرة وأصيلا . هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما . تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما}
يقول تعالى آمراً عباد المؤمنين بكثرة الذكر لربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب، روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)؟ قالوا: وما هو يا رسول اللّه؟ قال صلى اللّه عليه وسلم: (ذكر اللّه عزَّ وجلَّ) "أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه". وعن عبد اللّه بن بشر قال: جاء أعرابيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول اللّه أي الناس خير؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من طال عمره وحسن عمله)، وقال الآخر: يا رسول اللّه إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى اللّه عليه وسلم:
(لايزال لسانك رطباً بذكر اللّه تعالى)
"أخرجه الإمام أحمد وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الأخير منه". وفي الحديث: (أكثروا ذكر اللّه تعالى حتى يقولوا مجنون) "أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً"، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا اللّه تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة) "أخرجه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمرو مرفوعاً"، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {اذكروا اللّه ذكراً كثيراً} إن اللّه تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن اللّه تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال: {اذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عزَّ وجلَّ: {وسبحوه بكرة وأصيلا} فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر اللّه تعالى كثيرة جداً صنف العلماء في الأذكار كتباً كثيرة ومن أحسنها كتاب الأذكار للإمام النووي .
وقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} أي عند الصباح والمساء، كقوله عزَّ وجلَّ: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون}، وقوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} هذا تهييج إلى الذكر، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عزَّ وجلَّ: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (يقول اللّه تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) والصلاة من اللّه تعالى: ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، وقال غيره: الصلاة من اللّه عزَّ وجلَّ: الرحمة، وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم}، وقوله تعالى: {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين، {وكان بالمؤمنين رحيماً} أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق وبصّرهم الطريق، الذي ضل عنه الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم. روى الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى امرأة من السبي، قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟) قالوا: لا، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فواللّه، للّهُ
أرحم بعباده من هذه بولدها
، وقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} أي تحيتهم من اللّه تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: {سلام قولاً من رب رحيم} وقال قتادة: المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون اللّه في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت : وقد يستدل بقوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين}، وقوله تعالى: {وأعد لهم أجراً كريماً} يعني الجنة وما فيها من المأكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الآية رقم (45 : 48)
{ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }
عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، واللّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب سخّاب: أي كثير الصخب وهو الذي يرفع صوته في الأسواق في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا اللّه فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً "أخرجه البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار". وقال وهب بن منبه: إن اللّه تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء إسرائيل يقال له شعياء أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمها وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبِّر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلِّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل اللّه صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين، والشهداء الصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على ما خالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهمن أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم "أخرجه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رحمة اللّه".
وقال ابن عباس: لما نزلت: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي اللّه عنهما أن يسيرا إلى اليمن، فقال: (انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل عليّ: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} "رواه ابن أبي حاتم والطبراني"). فقوله تعالى {شاهدا} أي للّه بالوحدانية، وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، وقوله عزَّ وجلَّ {ومبشرا ونذيرا} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب، وقوله جلت عظمته {وداعيا إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم، {وسراجا منيرا} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جلَّ وعلا: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، {ودع أذاهم} أي اصفح وتجاوز عنهم وكل أمرهم إلى اللّه تعالى، ولهذا قال جلَّ جلاله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}.
الآية رقم (49)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها اطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، لقوله تبارك وتعالى: {من قبل أن تمسوهن} وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: {المؤمنات}خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق، وقد استبدل ابن عباس وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال:{إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فعقب النكاح بالطلاق، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح، فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فعندهما متى تزوجها طلقت منه، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ليس بشيء، من أجل أن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح؟ وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) "أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شيء في هذا الباب"وفي رواية: (لاطلاق قبل النكاح) "أخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخزمة"، وقوله عزَّ وجلَّ: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوقي عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً} المتعة هنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها، قال الّله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال عزَّ وجلَّ: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين}. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد أن رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل فلما أن دخلت عليه صلى اللّه عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين. قال علي بن أبي طلحة: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل.
الآية رقم (50)
{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما }
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى اللّه عليه وسلم، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصف، فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الّله تعالى أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها - رضي الّله عنهم أجمعين - وقوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الّله عليك} أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه ابراهيم عليهما السلام، وكانتا من السراري رضي الّله عنهما. وقوله تعالى: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} الآية، كان النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وحرم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع، روى ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: خطبني رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الّله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الّله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء، وقال قتادة: المراد من هاجر معه إلى المدينة، وفي رواية عنه {اللاتي هاجرن معك} أي أسلمن، وقوله تعالى: {وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة، إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الّله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً فقام رجل فقال: يا رسول الّله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم: (هل عندك من شيء تصدقها إياه؟) فقال ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم: (إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً) فقال: لا أجد شيئاً، فقال: (التمس ولو خاتماً من حديد) فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (هل معك من القرآن شيء؟) قال نعم سورة كذا وسورة كذا - السور يسميها - فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (زوجتكها بما معك من القرآن) "أخرجه البخاري ومسلم وأحمد".
وعن ثابت قال: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له، فقال أنس جاءت امرأة الى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا نبي الّله هل لك فيّ حاجة؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها فقال: (هي خير منك، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها) "أخرجه البخاري والإمام أحمد". وقال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم خولة بنت الحكيم، وعن عروة كنا نتحدث أن خولة بنت الحكيم كانت وهبت نفسها لرسول الّله صلى اللّه عليه وسلم، وكانت إمرأة صالحة، والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى اللّه عليه وسلم كثير، كما روى البخاري عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الّله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له، أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به لأنه مردود إلى مشيئته، كما قال الّله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحها} أي إن اختار ذلك "أخرج ابن سعد: أن أم شريك غزية بنت جابر الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك فسماها الّله: مؤمنة، فقال {وامرأة مؤمنة...} الآية، فلما نزلت قالت عائشة: إن الّله يسرع لك في هواك". وقوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} قال عكرمة: أي لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً، أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، ولهذا قال قتادة في قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} يقول: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} أي من حصرهم في أربعة نسوة حرائر، وما شاءوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه قاله مجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في تفسير قوله تعالى {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} {لكيلا يكون عليك حرج وكان اللّه غفوراً رحيماً}.
الآية رقم (51)
{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما }
{ترجي} أي تؤخر {من تشاء منهن} أي من الواهبات، {وتؤوي إليك من تشاء} أي من شئت رددتها، ومن رددتها فأنت أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فأويتها، ولهذا قال: {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}، قال الشعبي: كن نساءاً وهبن أنفسهن للنبي صلى اللّه عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده، منهن أم شريك، وقال آخرون: بل المراد بقوله: {ترجي من تشاء منهن} الآية، أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت؛ ومع هذا كان النبي يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى اللّه عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وروى البخاري عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذلك إليَّ فإني لا أريد يا رسول اللّه أن أوثر عليك أحداً اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن جميعاً وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، ولهذا قال تعالى: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} أي إذا علمن أن اللّه قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك، لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن واعترفن بمنتك عليهن، في قسمتك وإنصافك لهن وعدلك فيهن، وقوله تعالى: {واللّه يعلم ما في قلوبكم} أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه، كما روي عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: (اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) "أخرجه أصحاب السنن الأربعة وإسناده صحيح ورجاله ثقات"، وزاد أبو داود: يعني القلب. ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وكان اللّه عليماً} أي بضمائر السرائر، {حليماً} أي يحلم ويغفر "أخرج ابن سعد عن أبي رزين قال: همَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يطلق نساءه، فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن، يؤثر من يشاء على من يشاء، فأنزل اللّه: {إنا أحللنا لك أزواجك - إلى قوله - ترجي من تشاء} ذكره السيوطي".
الآية رقم (52)
{ لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا }
هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم على حسن صنيعهن، في اختيارهن اللّه ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما تقدم، فلما اخترن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان جزاؤهن أن اللّه تعالى قصره عليهن، وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج، لتكون المنة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليهن، روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحل اللّه له النساء "أخرجه أحمد والترمذي والنسائي". وروى ابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول اللّه تعالى: {ترجي من تشاء منهن} "أخرجه ابن أبي حاتم"فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة، الأولى ناسخة للتي بعدها واللّه أعلم. وقال آخرون: بل معنى الآية {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعدما ذكرنا لك من صفة النساء، اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات، والخال والخالات، والواهبة، وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك.
قال ابن جرير عن زياد عن رجل من الأنصار قال، قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج
النبي صلى اللّه عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال، قلت: قول اللّه تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} فقال: إنما أحل اللّه له ضرباً من النساء، فقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك - إلى قوله تعالى - إن وهبت نفسها للنبي} ثم قيل له: {لا يحل لك النساء من بعد}، وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك}، فأحل اللّه فتياتكم المؤمنات، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وحرم كل ذات غير دين الإسلام، ثم قال: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} الآية، وقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتتيت أجورهن - إلى قوله تعالى - خالصة لك من دون المؤمنين} وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء "رواه الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما". وقال مجاهد: {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد ما سمى لك، لا مسلمة ولا يهودية، ولا نصرانية، ولا كافرة، وقال عكرمة {لا يحل لك النساء من بعد}: أي التي سمى اللّه، واختار ابن جرير رحمه اللّه أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة واللّه أعلم.
الآية رقم (53 : 54)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما. إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما }
هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عزَّ وجلَّ في ثلاث: قلت: يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل اللّه تعالى: {واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى}
، وقلت: يا رسول اللّه إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل اللّه آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم، لمَّا تمالأن عليه في الغيرة {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} فنزلت كذلك، وفي رواية لمسلم: ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة. وفي البخاري عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل اللّه آية الحجاب، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، قال البخاري عن أنس بن مالك: لما تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلى اللّه عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا} الآية "رواه البخاري عن أنس بن مالك وأخرجه مسلم والنسائي بنحوه".
وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر الحيس: طعام خليط من تمر وسمن وأَقِط. التور: وعاء صغير للشرب ، فقالت: اذهب بهذا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل، - قال أنس: والناس يومئذ في جَهْد - فجئت به، فقلت: يا رسول اللّه بَعثتْ بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: (ضعه) فوضعه في ناحية البيت ثم قال: (اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً) فسمى رجالاً كثيراً، وقال: (ومن لقيت من المسلمين)، فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة، قال أنس: فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (جئْ به) فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا، وقال: (ما شاء اللّه) ثم قال: (ليتحلق عشرة عشرة وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه) فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ارفعه) قال: فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت، قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزوج رسول اللّه التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا، وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل اللّه عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآيات، قال أنس: فقرأهن عليَّ قبل الناس فأنا أحدث الناس بهن عهداً "رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بنحوه".
فقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي} حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار اللّه لهذه الأمة فأخبرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى: {إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه اللّه ويذمه؛ وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن صنّف الخطيب البغدادي كتاباً في ذم الطفيليين وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها ، ثم قال تعالى: {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا}، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره) "أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر"، وفي الصحيح أيضاً عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض)، ولهذا قال تعالى: {ولا مستأنسين لحديث} أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} وقيل: المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك، من شدة حيائه عليه السلام، حتى أنزل اللّه عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {واللّه لا يستحيي من الحق} أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه، ثم قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب، وقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند اللّه عظيماً} قال ابن عباس: نزلت في رجل همَّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم بعده، قال رجل لسفيان: أهي عائشة؟ قال: قد ذكروا ذلك، وقال السدي: إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد اللّه رضي اللّه عنه، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على من أن توفي عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده، لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم، وقد عظم اللّه تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: {إن ذلكم كان عند اللّه عظيماً}، ثم قال تعالى: {إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن اللّه كان بكل شيء عليماً} أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم، فإن اللّه يعلمه فإنه لا تخفى عليه خافية {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} نزلت الآية في طلحة بن عبيد اللّه، قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه بعده، فأنزل اللّه هذه الآية. أخرجه ابن أبي حاتم وأخرج جوبير عن ابن عباس: أن رجلاً أتى بعض أزواج الرسول فكلمها، وهو ابن عم لها، فكره الرسول ذلك، فقال الرجل: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من من بعده فنزلت الآية، قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل اللّه وحج ماشياً، توبة من كلمته .
الآية رقم (55)
{ لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا }
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} الآية، وفيها زيادات على هذه، وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى: {ولا نسائهن} يعني ذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات، وقوله تعالى: {وما ملكت أيمانهن} يعني به أرقاءهن من الإناث كما تقدم التنبيه عليه، قال سعيد بن المسيب: إنما يعني به الإماء فقط، وقوله تعالى: {واتقين اللّه إن اللّه كان على كل شيء شهيداً} أي واخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب.
الآية رقم (56)
{ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }
قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة اللّه تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، وقال ابن عباس: يصلون يبِرّكون، وقال سفيان الثوري: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، والمقصود من هذه الآية، أن اللّه سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي و السفلي جميعاً، قال ابن عباس: إن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه عزَّ وجلَّ: يا موسى سألوك هل يصلي ربك فقل نعم، أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ على نبيه صلى اللّه عليه وسلم: {إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} "أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس". وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} الآية، وقال تعالى: {أولئك عليهم صلوت من ربهم} الآية، وفي الحديث: (إن اللّه وملائكته يصلون على ميامن الصفوف(، وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه، ونحن نذكر منها إن شاء اللّه ما تيسر، روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن كعب بن عجرة قال: قيل يا رسول اللّه أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد). وروى ابن أبي حاتم عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت {إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} قال: قلنا يا رسول اللّه قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، ومعنى قولهم: أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد وفيه: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته. حديث آخر: وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قل، قلنا: يا رسول اللّه هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: (قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم). حديث آخر: قال مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا اللّه أن نصلي عليك يا رسول اللّه فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم) "أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي". ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته، على أن الجمهور على خلافه وحكوا الإجماع على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، فلا إجماع في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً، واللّه أعلم.
فضائل الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم .
روى أبو عيسى الترمذي عن عبد اللّه بن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة) "تفرد بروايته الترمذي وقال: حديث حسن غريب". حديث آخر: "وروى الترمذي عن أبي بن كعب" قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا اللّه اذكروا اللّه، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه) قال أبي: قلت يا رسول اللّه إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: (ما شئت) قلت الربع، قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قلت: فالنصف قال: {ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت: فالثلثين، قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قلت أجعل لك صلاتي كلها، قال: (إذن تكفي همك ويغفر لك ذنبك). طريق أخرى: روى
الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن اللّه قد قبض نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست فرفع رأسه فقال: (من هذا) قلت: عبد الرحمن، قال: (ما شأنك؟) قلت: يا رسول اللّه سجدت سجدة خشيت أن يكون اللّه قبض روحك فيها، فقال: (إن جبريل أتاني فبشرني أن اللّه عزَّ وجلَّ يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت للّه عزَّ وجلَّ شكراً)
. حديث آخر: قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن أبي طلحة عن أبيه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا يا رسول اللّه إنا لنرى السرور في وجهك، فقال: (إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك ربك عزَّ وجلَّ يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً قلت: بلى) "أخرجه أحمد ورواه النسائي بنحوه". حديث آخر: روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من صلى عليَّ واحدة صل اللّه عليه بها عشراً). حديث آخر: قال الإمام أحمد عن قيس مولى عمرو بن العاص قال: سمعت عبد اللّه بن عمرو يقول: من صلى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة صلى اللّه عليه وملائكته لها سبعين صلاة، فليقلَّ عبد من ذلك أو ليكثر، وسمعت عبد اللّه ابن عمرو يقول: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً كالمودع، فقال: (أنا محمد النبي الأمي - قاله ثلاث مرات - ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي عوفيت وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإن ذهب بي فعليكم بكتاب اللّه أحلوا حلاله وحرموا حرامه). حديث آخر: قال الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى اللّه عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات). حديث آخر: قال الإمام أحمد عن علي بن الحسين عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل عليّ). حديث آخر: قال إسماعيل القاضي عن أبي ذر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل عليّ)، وروى عن الحسن البصري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (بحسب امرئ من البخل أن أذكر عنده فلا يصليّ عليّ).
حديث آخر: قال الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة) "أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب ورواه البخاري بنحوه". وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، بل تستحب، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا اللّه فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةَ ترة: مكروهاً وحسرة عليهم يوم القيامة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)، وحكي عن بعضهم: أنه إنما تجب الصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - في العمر مرة واحدة امتثالاً لأمر الآية، ثم هي مستحبة في كل حال، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم في الجملة.
فصل.
وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث: اللهم صل على محمد وآله وأزواجه وذريته، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم، فقال قائلون: يجوز ذلك، واحتجوا بقول اللّه تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته}، وبقوله: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة}، وبقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} الآية. وبحديث عبد اللّه بن أبي أوفى قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صلِّ عليهم) فأتاه أبي بصدقته فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى) "أخرجاه في الصحيحين"، وقال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة، لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: قال أبو بكر صلى اللّه عليه، أو قال علي صلى اللّه عليه، وإن كان المعنى صحيحاً، كما لا يقال: قال محمد عزَّ وجلَّ، وإن كان عزيزاً جليلاً، لأن هذا شعار ذكر اللّه عزَّ وجلَّ، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعاراً لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته، وهذا مسلك حسن. وأما السلام، فقال الجويني من أصحابنا: هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه، انتهى ما ذكره.
قلت : وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي اللّه عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم اللّه وجهه؛ وهذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي اللّه عنهم أجمعين، قال عكرمة عن ابن عباس: لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه: أما بعد فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عَدْلَ الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا، فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك "قال ابن كثير: أثر حسن".
فرع: قال النووي: إذا صلى على النبي صلى اللّه عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: صلى اللّه عليه فقط، ولا عليه السلام فقط. وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} فالأولى أن يقال صلى اللّه عليه وسلم تسليماً.
الآية رقم (57 : 58)
{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا . والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا }
يقول تعالى متهدداً ومتوعداً من آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص - عياذاً باللّه من ذلك - قال عكرمة {إن الذين يؤذون اللّه ورسوله} نزلت في المصورين، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يقول اللّه عزَّ وجلَّ: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره) ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون: يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا، فيسندون أفعال اللّه إلى الدهر ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو اللّه عزَّ وجلَّ فنهى عن ذلك، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {إن الذين يؤذون اللّه ورسوله} نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب، والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى اللّه كما أن الطاعة فقد أطاع اللّه، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه اللّه في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه يوشك أن يأخذه) "أخرجه أحمد والترمذي". وقوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} أي ينسبون إليهم ما هم براء منه لم يعملوه ولم يفعلوه {فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الرافضة الذين يتنقصون الصحابة، ويعيبونهم بما قد برأهم اللّه منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر اللّه عنهم، فإن اللّه عزَّ وجلَّ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين، وقد روي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (أي الربا أربى عند اللّه؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: )أربى الربا عند اللّه استحلال عرض امرئ مسلم( ثم قرأ: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} "أخرجه ابن أبي حاتم".
الآية رقم (59 : 62)
{ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما . لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا . ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }
يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهم من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم، قال الجوهري: الجلباب الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها:
تمشي النسور إليه وهي لاهية * مشي العذارى عليهن الجلابيب.
قال ابن عباس: أمر اللّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوهن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة، وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول اللّه عزَّ وجلَّ: {يدنين عليهن من جلابيبهن} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى، وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها "أخرجه ابن أبي حاتم". وسئل الزهري هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات، وقد قال اللّه تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة وإما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: {ونساء المؤمنين}، وقوله: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، فيتعرضون للنساء وكان مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا: هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد: يتحجبن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة، وقوله تعالى: {وكان اللّه غفوراً رحيماً} أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك، ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطون الكفر {والذين في قلوبهم مرض} قال عكرمة وغيره: هم الزناة ههنا، {والمرجفون في المدينة} يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب، وهو كذب وافتراء، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق {لنغرينك بهم} قال ابن عباس: أي لنسلطنك عليهم، وقال قتادة لنحرشنك بهم، وقال السدي: لنعلمنك بهم، {ثم لا يجاورونك فيها} أي في المدينة {إلا قليلاً ملعونين} حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين {أينما ثقفوا} أي وجدوا، {أخذوا} لذلتهم وقلتهم، {وقتلوا تقتيلاً}. ثم قال تعالى: {سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل} أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم، ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، {ولن تجد لسنة اللّه تبديلاً} أي وسنّة اللّه في ذلك لا تبدل ولا تغير.
الآية رقم (63 : 68)
{ يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا . خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا . يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا }
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات اللّه وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة، وأرشده أن يرد علمها إلى اللّه عزَّ وجلَّ، لكن أخبره أنها قريبة بقوله: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً}، كما قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وقال: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}، وقال: {أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه}، ثم قال: {إن اللّه لعن الكافرين} أي أبعدهم من رحمته {وأعد لهم سعيراً} أي في الدار الآخرة {خالدين فيها أبداً} أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، {لا يجدون ولياً ولا نصيراً} أي ليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه، ثم قال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرسولا} أي يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، يتمنون أن لو كانوا في الدنيا ممن أطاع اللّه وأطاع الرسول، كما أخبر اللّه عنهم بقوله: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً}، وقال تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو أطاعوا اللّه وأطاعوا الرسول في الدنيا، {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} قال طاووس: {سادتنا} يعني الأشراف و{كبراءنا} يعني العلماء، أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل {ربنا آتهم ضعفين من العذاب} أي بكفرهم وإغوائهم إيانا {والعنهم لعناً كبيراً} قرئ كبيراً وقرئ كيثراً وهما متقاربان في المعنى.
الآية رقم (69)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها }
أخرج الإمام البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن اللّه عزَّ وجلَّ أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق اللّه عزَّ وجلَّ، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فواللّه إن بالحجر لَنَدَباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً - قال - فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه اللّه مما قالوا وكان عند اللّه وجيهاً} "أخرجه البخاري مطولاً في أحاديث الأنبياء ورواه في باب التفسير مختصراً". وعن ابن عباس في قوله: {ولا تكونوا كالذين آذوا موسى} قال، قال قومه له: إنك آدر، فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، وخرج يتبعها عرياناً، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل، قال: فرأوه ليس بآدر فذلك قوله: {فبرأه اللّه مما قالوا}، وروى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن مسعود قال: قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه، قال، فقلت: يا عدو اللّه أما لأخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قلت، فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فاحمر وجهه ثم قال: (رحمة اللّه على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) "أخرجاه في الصحيحين وللفظ لأحمد". وقوله تعالى: {وكان عند اللّه وجيهاً} أي له وجاهة وجاه عند ربه عزَّ وجلَّ، قال الحسن البصري: كان مستجاب الدعوة عند اللّه، وقال غيره من السلف: لم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه، ولكن منع الرؤية لما يشاء عزَّ وجلَّ، وقال بعضهم: من وجاهته العظيمة عند اللّه أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله أي يجعله رسولاً معه اللّه معه فأجاب اللّه سؤاله فقال: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً}.
الآية رقم (70 : 71)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا {قولاً سديداً} أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه، بأن يصلح لهم أعمالهم أن يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، ثم قال تعالى: {ومن
من يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم، عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الظهر فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال: (إن اللّه تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا اللّه وتقولوا قولاً سديداً) ثم أتى النساء فقال: (إن اللّه أمرني أن آمركن أن تتقين اللّه وتقلن قولاً سديداً). وعن ابن عباس موقوفاً: (من سره أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه، قال عكرمة: القول السديد لا إله إلا اللّه، وقال غيره: السديد الصدق، وقال مجاهد: هو السداد، وقال غيره: هو الصواب، والكل حق.
الآية رقم (72 : 73)
{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } قال ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد رعضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فحملها، فذلك قوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} وعنه الأمانة الفرائض عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين اللّه أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} يعني غراً بأمر اللّه. وهكذا قال مجاهد والضحاك والحسن البصري: إن الأمانة هي الفرائض، وقال آخرون: هي الطاعة، وقال أبي بن كعب من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها، وقال قتادة: الأمانة الدين والفرائض والحدود، وقال زيد بن أسلم: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة؛ وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق اللّه وباللّه المستعان. عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} قال: عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، وحملة العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قال: قيل لها إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد، وذللت بالمهاد، قال، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال، قيل لها: إن أحسنت جزيت،
وإن أسأت عوقبت، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب، قال، قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيهن؟ قال لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا "ذكره ابن أبي حاتم من كلام الحسن البصري رضي اللّه عنه". وقال مقاتل ابن حيان: إن اللّه تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسماوات والأرض والجبال، فبدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة، وَلَكُنَّ عليَّ الفَضْلُ والكرامة والثواب في الجنة؟ فقلن: يا رب إنا لا نسطيع هذا الأمر، وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون، ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا؟ فقلن: لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا به، ثم قرب آدم فقال له: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم: ما لي عندك؟ قال: يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار، قال: رضيت يا رب، وتحملها فقال اللّه عزَّ وجلَّ عند ذلك: قد حملتكها فذلك قوله تعالى: {وحملها الإنسان} "أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان موقوفاً".
وروى ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (القتل في سبيل اللّه يكفر الذنوب كلها - أو قال - يكفر كل شيء إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أدِّ أمانتك فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أنَّى يا رب، وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أنَّى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين) قال: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الوادئع، فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد اللّه؟ فقال: صدق "أخرجه ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه"، ومما يتعلق بالأمانة ما روي عن حذيفة رضي اللّه عنه قال: حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنّة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل كجمر دحرجته على رجلك، تراه مُنْتَبراً المًجْل: انتفاخ في اليد من العمل الشاق أو النار، منتبراً: متورماً ، وليس فيه شيء - قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنّه عليّ دينه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً "أخرجه الشيخان والإمام أحمد". وروى الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طِعمة) "أخرجه أحمد والطبراني. و الطِعمة : الجهة التي يُرتزق منها . وقوله تعالى: {ليعذب اللّه المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي إنما حمّل بني آدم الأمانة وهي التكاليف {ليعذب اللّه المنافقين والمنافقات} وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله {والمشركين والمشركات} وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك باللّه ومخالفة رسله، {ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات} أي ليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا باللّه وكتبه ورسله العاملين بطاعته، {وكان اللّه غفوراً رحيماً}.